الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله سبحانه وتعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة} قيل كان أسمهما أصرم وصريم {وكان تحته كنز لهما} روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان الكنز ذهبًا وفضة» أخرجه الترمذي.وقيل كان الكنز صحفًا فيهم علم.وقال ابن عباس: كان لوحًا من ذهب مكتوبًا فيه عجبًا لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبًا لمن أيقن بالقدر كيف يغضب، عجبًا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجبًا لمن أيقن بالحساب كيف يغفل عجبًا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي الجانب الآخر مكتوب أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه.وقيل الكنز إذا أطلق يراد به المال ومع التقييد يراد به غيره، يقال عند فلان كنز علم وكان هذا اللوح جامعًا لهما {وكان أبوهما صالحًا} قيل إن إسمه كاشح وكان من الأتقياء، وقال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، وقيل كان بينهما وبين الأب الصالح سبع آباء، قال محمد بن المنكدر: إن الله سبحانه وتعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم وقال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي.{فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} أي يدركا ويعقلا قوتهما وهو البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة.فإن قلت كيف قال في الأولى فأردت وفي الثانية فأردنا وفي الثالثة فأراد ربك وما وجه كل واحدة في هذه الألفاظ.قلت إنه لما ذكر العيب أضافة إلى نفسه على سبيل الأدب مع الله تعالى، فقال فأردت أن أعيبها ولما قتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهًا على أنه من العلماء العظماء في علم الباطن وعلوم الحكمة، وأنه لم يقدم على مثل هذا القتل إلا بحكمة عالية، ولما ذكر عليه المصالح في مال اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله سبحانه وتعالى لأن حفظ الأبناء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا لله سبحانه وتعالى، فلأجل ذلك أضافه إلى الله تعالى {ويستخرجا كنزهما} يعني إذا بلغا وعقلا وقويا {رحمة من ربك} أي نعمة من ربك {وما فعلته عن أمري} أي باختياري ورأيي بل فعلته بأمر والله وإلهامه إياي لأن تنقيض أموال الناس وإراقة دمائهم وتغيير أصولهم، لايكون إلا بالنص وأمر الله تعالى.واستدل بعضهم بقوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري على أنه الخضر كان نبيًا لأن هذا يدل على الوحي وذلك للأنبياء، والصحيح أنه ولي الله وليس بنبي، وأجيب عن قوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري إنه إلهام من الله سبحانه وتعالى له بذلك، وهذه درجة الأولياء.وقيل معناه إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة الله لأنهما بأسرها ترجع إلى معنى واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.{ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا} أي لم تطق أن تصبر عليه.روي أن موسى عليه السلام لما أراد أن يفارق الخضر قال: أوصني قال: لا تطلب العلم لتحدث به واطلب العلم لتعمل به.واختلف العلماء في أن الخضر حي أم ميت فقيل إنه حي وهو قول الأكثرين من العلماء وهو متفق عليه عند مشايخ الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة والحكايات في رؤيته والاجتماع به، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاواه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة.هذا آخر كلامه، وقيل إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم وكان السبب في حياة الخضر فيما حكي أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذو القرنين دخل الظلمة لطلب عن الحياة، وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فاغتسل وشرب منها وصلى شكرًا لله تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق، فرجع وذهب أخرون إلى أنه ميت لقوله سبحانه وتعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حيًا لكان لا يعيش بعده».وقوله: {ويسألونك عن ذي القرنين} قيل اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح وقيل اسمه الاسكندر بن فيلفوس كذا صح الرومي، وكان ولد عجوز ليس لها ولد غيره ونقل الإمام فخر الدين في تفسيره عن أبي الريحان السروري المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أنه من حمير واسمه أبو كرب سمي ابن عير بن أبي أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به أحد شعراء حمير حيث يقول:
قوله فرأى مآب الشمس، أي ذهاب الشمس وقوله في عين ذي خلب أي حمأة، والثأطة الحمأة أيضًا والجمع ثأط والحرمد الطين الأسود.وقيل سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، وقيل لأنه ملك فارس والروم وقيل لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس وقيل لأنه كان له ذؤابتان حسنتان، وقيل كان له قرنان تورايهما العمامة، وروي عن على أنه أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله ثم بعثه فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله.واختلفوا في نبوته فقيل كان نبيًا ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى قلنا يا ذا القرنين وخطاب الله لا يكون إلا مع الأنبياء وقيل لم يكن نبيًا.قال أبو الطفيل: سئل علي عن ذي القرنين أكان نبيًا فقال: لم يكن نبيًا ولا ملكًا ولكن كان عبدًا أحب الله فأحبه الله وناصح الله، فناصحه الله.وروي أن عمر سمع رجلًا يقول لآخر يا ذا القرنين فقال تسميتم بأسماء الأنبياء، فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة والأصح الذي عليه الأكثرون أنه كان ملكًا صالحًا عادلًا وأنه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال والجنوب وهذا هو القدر المعمور من الأرض وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن دان له طوائف ثم مضى إلى ملوك العرب وقهرهم، ومضى حتى أنتهى إلى البحر الأخضر، ثم رجع إلى مصر وبنى الإسكندرية، وسماها باسمه ثم دخل الشام وقصد بيت المقدس وقرب فيه القربان، ثم انعطف إلى أرمينية وبوب الأبواب وبنى السد ودانت له ملوك العراق والنبط والبربر.واستولى على ممالك الفرس ثم مضى إلى الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ثم رجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها وحمل إلى حيث هو مدفون وقيل إن عمره كان ألفًا وثلاثين سنة ومثل هذا الملك البسيط الذي هو على خلاف العادات وجب أن يبقى ذكره مخلدًا على وجه الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرًا} أي خبرًا يتضمن حاله.قوله سبحانه وتعالى: {إنا مكنا له في الأرض} أي وطأنا له والتمكين تمهيد الأسباب، قال علي سخر الله له السحاب فحمل عليه ومد له في الأسباب، وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وذلك له طريقها.{وآتيناه من كل شيء} ما يحتاج إليه الخلق وكل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء {سببًا} أي علمًا يسبب به إلى كل ما يريده ويسير به في أقطار الأرض وقيل بلاغًا إلى حيث أراد، وقيل قربنا له أقطار الأرض {فأتبع سببًا} أي سلك طريقًا {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة} أي ذات حماة وهي الطينة السوداء، وقرئ: {حامية} أي حارة، وسأل معاوية كعبًا: كيف تجد في التوراة تغرب الشمس وأين تغرب؟ قال: نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين.وقيل يجوز أن يكون معنى في عين حمئة أي عندها عين حمئة، أو في رأي العين، وذلك أنه بلغ موضعًا من المغرب لم يبق بعده شيء من العمران فوجد الشمس كأنها تغرب في وهذه مظلمة.كما أن راكب البحر يرى أن الشمس كأنها تغيب في البحر {ووجد عندها قومًا} أي عند العين أمة، قال ابن جريج: مدينة لها أثنا عشر ألف باب يقال إنها الجاسوس واسمها بالسريانية حريحسا سكنها قوم من نسل ثمود الذين آمنوا بصالح لولا ضجيج أهلها، لسمع الناس وجبة الشمس حين تجب أن تغيب {قلنا يا ذا القرنين} يستدل بهذا من يزعم أنه كان نبيًا فإن الله خاطبه من قال إنه لم يكن نبيًا قال المراد منه الإلهام وقيل يحتمل أن يكون الخطاب على لسان غيره {إما أن تعذب} يعني تقتل من لم يدخل في الإسلام.{وإما أن تتخذ فيهم حسنا} يعني تعفو وتصفح وقيل تأسرهم فتعلمهم الهدى، خيره الله سبحانه وتعالى بين الأمرين {قال أما من ظلم} أي كفر {فسوف نعذبه} أي نقتله {ثم يرد إلى ربه} أي في الآخرة {فيعذبه عذابًا نكرًا} أي منكرًا يعني بالنار لأنها أنكر من القتل {وأما من آمن وعمل صالحًا فله جزاء الحسنى} أي جزاء أعماله الصالحة {وسنقول له من أمرنا يسرًا} أي نلين له القول نعامله باليسر من أمرنا {ثم أتبع سببًا} أي سلك طريقًا ومنازل {حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترًا} قيل إنهم كانوا في مكان ليس بينهم وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر عليهم بناء، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم تحت الأرض، فإذا زالت الشمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم.وقيل إنهم كانوا إذا طلعت الشمس نزلوا في الماء فإذا ارتفعت عنهم خرجوا فرعوا كالبهائم، وقيل هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحق بالأخرى وقيل إنهم من قوم من نسل مؤمني قوم هود واسم مدينتهم جابلق واسمها بالسريانية مرقيسيا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج.قوله سبحانه وتعالى: {كذلك} أي كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها، وقيل معناه أنه حكم في القوم الذين هم عند مطلع الشمس كما حكم في القوم الذين هم عند مغربها وهو الأصح.{وقد أحطنا بما لديه خبرًا} أي علمًا بما عنده ومن معه من الجند والعدة وآلات الحرب، وقيل معناه وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية بذلك الملك والاستقلال به والقيام بأمره.قوله: {ثم أتبع سببًا حتى إذا بلغ بين السدين} هما هنا جبلان في ناحية الشمال في منقطع أرض الترك حكي أن الواثق بعث بعض من يثق به من أتباعه إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل {وجد من دونهما قومًا} أي أمام السدين قيل هم الترك {لا يكادون يفقهون قولًا} قال ابن عباس: لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم {قالوا يا ذا القرنين} فإن قلت كيف أثبت لهم القول وهم لا يفهمون.قلت تكلم عنهم مترجم ممن هو مجاورهم ويفهم كلامهم، وقيل معناه لا يكادون يفقهون قولًا إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم الخرس {إن يأجوج ومأجوج} أصلهما من أجيج النار وهو ضوؤها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم، وهم من أولاد يافت بن نوح والترك منهم قيل إن طائفة منهم خرجت تغير فضرب ذو القرنين السد فبقوا خارجه فسموا الترك لأنهم تركوا خارجين.قال أهل التواريخ: أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ويافث أبو الترك والخزر والصقالية ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس «هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء» وروى حذيفة مرفوعًا «أن يأجوج ومأجوج أمة، وكل أمة أربعة آلاف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه قد حمل السلاح، وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا، وقال هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون مائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه بالأخرى وطوله سواء عشرون مائة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحق بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية».وعن علي: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول.وقال كعب: هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم أحتلم ذات يوم، وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم، وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلًا من الروم ابن عجوز.فلما بلغ كان عبدًا صالحًا قال الله سبحانه وتعالى إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس.يقال له ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض احداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج.فقال ذو القرنين بأي قوة أكابدهم وبأي جمع أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم؟ فقال الله تعالى إني سأقويك وأبسط لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك، فالنور يهديك من أمامك والظلمة تحوطك من ورائك.فانطلق حتى مغرب الشمس، فوجد جمعًا وعددًا لا يحصيهم إلا الله تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد، فدعاهم إل الله تعالى وعبادته فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب جندًا عظيمًا وانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم، حتى أتى هاويل ففعل فيهم كفعله في ناسك ثم مضى حتى منسك ففعل فيهم كفعله في الأمتين، وجند منهم جندًا عظيمًا ثم أخذ ناحية اليسرى فأتى تاويل ففعل بهم كفعله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض.
|